من الحقائق الأولية التي سرعان ما يكتشفها كلُ مَنْ يطّلع على لغةٍ أجنبيةٍ أو يتعلمها أن كلَّ لغة تخضع لنظام معين في ترتيب كلماتها وعلاقة كل كلمة بالأخرى داخل الجملة الواحدة، وأنه لا يصح الإخلال بهذا النظام أو الخروج عنه، وإلا تعذّر الفهم والإفهام. ولكن من الحقائق الأخرى التي ربما لا يفطن المرءُ إليها إلا حينما يحاول ترجمة نص من لغة إلى أخرى أنَّ لكل لغة أيضًا مسلكًا خاصًا يميزها عن غيرها في نَظْم الجُمَل ورَبْطِ بعضها ببعض. فأساليب عطف جملة على أخرى (وهو ما اصطلح علماءُ البلاغة على تسميته بالوصل) والأدوات المستخدمة في ذلك تختلف اختلافًا كبيرًا من لغة لأخرى.
ولعل من أوضح الأمثلة على ذلك اختلاف أسلوبي وصل الجمل وفصلها بين اللغتين العربية والإنجليزية، ففي حين أن الإنجليزية تميل إلى استخدام الجمل القصيرة وربما تكتفي بعلامات الترقيم للربط بين هذه الجمل، نجد اللغة العربية تميل إلى استخدام الجمل الطويلة التي تربط بين أجزائها بأدوات الربط، مثل “الواو” و”الفاء” وغيرهما. انظر مثلاً الترجمة العربية للنص الإنجليزي التالي[1] لترى كيف عبَّر الكاتبُ عن فكرته باللغة الإنجليزية في أربع جُمل، واكتفى بعلامات الترقيم للربط بين هذه الجمل، في حين أن المترجم نقل هذه الفكرة إلى اللغة العربية في جملة واحدة مستعينًا بأدوات وأساليب للربط بين أجزاء هذه الجملة، ألا وهي: (و)، (وإن كانت)، (إذ إن)، فجاءت الترجمة العربية سلسةً خاليةً من أي عجمة.
ولكن هذه المذكرات كانت ذات نبرة هادئة نسبيًا، وذات مضمون محلي في المقام الأول، وإن كانت أحيانًا ما تشير إلى العالم الخارجي، إذ إن لطفي باشا، مثلاً، يلفت الانتباه إلى أهمية القوة البحرية، قائلاً إن العثمانيين ينتصرون في كل موقعة برية، ولكن الكفار يتفوقون في البحر، وقد يكمن في ذلك خطر أي خطر. |
But these memoranda were relatively calm in tone and primarily domestic in content. They do occasionally refer to the outside world. Lûtfi Pasha, for example, drew attention to the importance of sea power. The Ottomans, he says, are everywhere triumphant on the land, but the infidels are superior at sea, and this could be dangerous. |
وإذا أردت مثالاً آخر يوضح اختلاف أسلوبي الفصل والوصل بين اللغتين العربية والإنجليزية، فانظر ترجمة يوسف علي للآية الكريمة التالية. ولاحظ كم واو عطف حُذفت من الترجمة الإنجليزية واستُعيض عنها بعلامات ترقيم!
﴿وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا﴾ [الآية رقم 82 من سورة الكهف] |
“As for the wall, it belonged to two youths, orphans, in the Town; there was, beneath it, a buried treasure, to which they were entitled; their father had been a righteous man: So thy Lord desired that they should attain their age of full strength and get out their treasure – a mercy (and favour) from thy Lord. I did it not of my own accord. Such is the interpretation of (those things) over which thou wast unable to hold patience”. |
يقول د. إبراهيم أنيس[2]: «لا نغالي حين نقرر أن اللغة العربية لغة الوصل، ففيها من أدوات الربط ما لا نكاد نراه في غيرها، كالواو والفاء وثم .. إلخ، وقد اشتركت في هذا إلى حد ما كل اللغات السامية التي لا تكاد تبدأ جملة من جملها بغير واو العطف. فالوصل خاصية من خصائص اللغات السامية لا نكاد نراها في اللغات الأوروبية. ويكفي أن يقوم المرء بترجمة قطعة من اللغة العربية إلى الإنجليزية ترجمة صحيحة حتى يدرك أنه لا بد من تجاهل واوات العطف الكثيرة في الكلام العربي. فإذا كانت الترجمة من الإنجليزية إلى العربية، وجد المترجم أنه من الضروري أن يمد ترجمته العربية بعدد من واوات العطف، يتطلبها الأسلوب العربي».
ومن ثمَّ كان لزامًا على المترجم أن ينتبه إلى الوسائل التي تعين على تسلسل الجمل في النص ودواعي الوصل والفصل وتمييز موضع أحدهما عن موضع الآخر وفقًا لما تقتضيه البلاغة؛ حتى تكون ترجمته جاريةً على المنهج المألوف في اللغة المترجَم إليها. وذلك فضلاً عن مراعاة معنى كل أداة من أدوات الربط، فإن كانت “الواو” مثلاً تفيد العطف، فإن “الفاء” تفيد الترتيب من غير تراخٍ، و”ثم” تفيد الترتيب مع التراخي .. وهكذا. ورحم الله الشيخ عبد القاهر الجرجاني الذي قال في كتاب “دلائل الإعجاز”: «اعلمْ أنّ العلمَ بما ينبغي أنْ يُصنَع في الجمل، من عطف بعضها على بعض، أو ترك العطف فيها والمجيء بها منثورةً، تُسْتَأنف واحدةٌ منها بعد الأخرى، من أسرار البلاغة».
[1] النص الإنجليزي مقتبس من كتاب “What went wrong?” لبرنارد لويس، والترجمة العربية للدكتور محمد عناني
[2] في كتاب «من أسرار اللغة»