روى الأستاذ عباس العقاد[1] أنه كان ذات يوم يعمل مُدرِّسًا متطوعًا في المدرسة الإسلامية بأسوان إذ «حضر مصطفى كامل مُتفقِّدًا للمدرسة ومعه الكاتبة الفرنسية مدام “آدم جولييت” وسيدة إنجليزية، وكانت الحصة حصة محفوظات ولغة، فأملى مصطفى كامل على التلاميذ هذا البيت لأبي العلاء: (والمرء ما لم تفد نفعًا إقامته … غيمٌ حمى الشمس لم يمطر ولم يسر)». وبعد أن تولى مصطفى كامل ترجمة البيت للسيدتين بطلاقة، طلب من التلاميذ أن يشرحوه ويُعلِّقوا عليه. فتلعثم التلاميذ واضطربوا ولم يحسنوا الشرح أو التعليق. فأسرع العقاد إلى تدارك الموقف قائلًا: «إن التلاميذ معذورون لأنهم في أسوان يعلمون أن الغيم الذي يظلل الرءوس شيء نافع لا يضربون به المثل لقلة النفع، فلعله أنفع لهم من شعاع الشمس ومن المطر».
ورغم أن تبرير العقاد وتصرفه الذكي في هذا الموقف كان أقرب إلى الفكاهة منه إلى الجد، فإنه يلفت انتباهنا إلى أنَّ نظرة الناس إلى الأحوال المُناخية ومشاعرهم تجاهها تختلف باختلاف الثقافات والمناطق الجغرافية. فالظرف المُناخي الذي يستحسنه الناس في بيئة من البيئات أو ثقافة من الثقافات قد يستقبحه غيرهم، وينعكس ذلك على اللغة، فنجد أن التعبيرات والاستعارات اللغوية تتأثر بالخصائص البيئية والأحوال المُناخية. فكل لغة تنظر إلى البيئة والعالم الخارجي من منظور مختلف، ولكل لغة منطقها الخاص في التعبير.
ولا عجب في اصطباغ اللغة بصبغة بيئتها الطبيعية، فذلك أحد أوجه الارتباط الأبدي بين اللغة والثقافة عمومًا، ولكن تكمن المشكلة في الترجمة بين لغتين تختلف بيئتاهما اختلافًا كبيرًا ينعكس على ألفاظهما وتعبيراتهما، كما هو حال اللغتين العربية والإنجليزية. فإذا كانت بيئة اللغة العربية يغلب عليها الدفء والمناخ الجاف، فإن بيئة اللغة الإنجليزية تتسم بالبرودة والمناخ المَطِير. ولا شك أن المترجم بين هاتين اللغتين – وإن شئت قل بين هاتين البيئتين – سوف يواجه تعبيرات واستعارات مرتبطة ارتباطًا وثيقًا ببيئتها الطبيعية وتحمل دلالات وإيحاءات ربما يصعب نقلها كما هي إلى اللغة الأخرى.
فمن ناحية الدفء والبرد، نرى أن شدة البرودة في البيئة التي يعيش فيها أهل الإنجليزية جعلت الدفء مُحبَّبًا إلى قلوبهم، وانعكس ذلك على لغتهم فنراهم إذا أرادوا التعبير عن سعادتهم من شيء ما قالوا: It warmed my heart، وإذا أرادوا التعبير عن حفاوة الاستقبال وصفوه بأنه: warm welcome، وإذا أرادوا الإشارة إلى شخص بأنه عطوف أو ودود قالوا عنه: He is warm-hearted. ويلجأ العربي على العكس من ذلك إلى البرودة للكناية عن السرور والابتهاج فيقول: (قَرَّت عينه)، (وأثلج الشيءُ صدره).
أما من ناحية الضوء والظل، فيقول العرب: «في ظل الأحداث الراهنة»، ولكن يقول أهل الإنجليزية: «In the light of current events»، وكذلك أهل الفرنسية: «À la lumière des événements actuels». ويرجع اختلاف طريقة التعبير في هذا المثال إلى أنَّ أصحاب الثقافة الغربية غالبًا ما يفتقدون إلى الضوء، فالجو في بلادهم مُلبَّد بالغيوم في كثير من الأحيان، في حين أن الشمس غالبًا ما تكون ساطعةً في بلادنا فنحتاج إلى قليل من الظل كي تتَّضح الرؤية.
ومن ناحية فصول العام، فإن أهل الإنجليزية غالبًا ما يرون في الصيف رمزًا للدفء والجمال، بينما يرتبط الصيف في ثقافتنا العربية بالحرارة الشديدة وقيظ الشمس. يقول د. خالد توفيق[2]: «وهذه المعضلة الثقافية هي نفسها التي واجهت المترجمين الذين أقدموا على ترجمة إحدى قصائد شكسبير التي تبدأ بالبيت التالي: Shall I compare thee to a summer’s day. فالشاعر بحث في مخزونه الثقافي عن مجاز مأخوذ من جمال الطقس فلم يجد أجمل من أحد أيام الصيف ليقارن أو بمعنى أدق ليشبه به حبيبته. وهذه الصورة هي وليدة الثقافة الإنجليزية التي ترى دفء الصيف مثالاً للجمال والحنو، بينما في ثقافتنا العربية يرتبط الصيف في الذهن بالحرارة الشديدة، وقيظ الشمس، والعرق، وزحمة أتوبيسات النقل العام، وربما التسلخات!».
أمَّا ما يخص المطر، فربما تتفق الثقافتان الإنجليزية والعربية في نظرتهما إليه على أنه رمزٌ للخير والرحمة. فنرى أهل الإنجليزية في كلامهم العامي مثلًا يستخدمون عبارة “as right as rain” بمعنى تمام الصحة والعافية. ومن ثمَّ ينبغي للمترجم أن ينتبه إلى اختلاف المدلول الثقافي للأحوال المُناخية في اللغة التي يُترجِم منها وإليها، وعليه أن يتذكر دائمًا أن الكلمة أو العبارة قد تختلف إيحاءاتها باختلاف بيئتها الجغرافية.
[1] في كتابه “حياة قلم”
[2] في كتابه “نوادر الترجمة والمترجمين”