المترجم وظاهرة “التَّلطُّف في التعبير” (Euphemism)  
11:14 ص - أبريل 1, 2017, كتب بواسطة: محمد

روى د. زكي نجيب محمود[1] أنَّ الأستاذ أحمد أمين أهدى نسخةً من كتابٍ له إلى أحد المستشرقين، فأرسل إليه هذا المستشرق رسالةً باللغة العربية يشكره فيها على الهدية ويمدحه بغزارة علمه، واختتم تلك الرسالة بقوله: «أدامك الله لننتفع من خرَّارة علمكم». قال المستشرقُ كلمة “خرَّارة” في مقام مدح وثناء، ولم يقصد بها سوى معناها المعجمي، فقد ورد بلسان العرب أن الخَرَّارة هي «عَيْنُ الماءِ الجارِيَةُ، سميت خَرَّارَةً لِخَرِيرِ مائها، وهو صوته»، فكأنما أراد المستشرق أن يقول إنَّ العِلم كان “يخرّ” كعين ماء جارية في صحراء المعرفة القاحلة! ورغم بلاغة الاستعارة، لم ينتبه الرجل إلى المعنى الإيحائي الكريه الذي تحمله كلمة “خرَّارة”، مما جعل رسالته محلًا للتندر وإطلاق النكات.

تُذكِّرنا هذه الواقعة بظاهرة لغوية شائعة تتمثل في ميل الناس إلى تحاشي بعض الألفاظ المباشرة الواضحة واستخدام ألفاظ أقل وضوحاً في دلالاتها وأكثر غموضاً أو تعميةً عند الإشارة إلى بعض الأمور السيئة أو المكروهة أو الحساسة أو غير المستحبة، ويكون ذلك من باب التَّأدُّب أو الخجل أو الحرص على الاحتشام وعدم خدش الحياء أو لتلطيف حقيقة ما أو تهوينها أو غير ذلك. وتُسمى هذه الظاهرة “التَّلطُّف في التعبير” (Euphemism). قال د. أحمد مختار عمر عن هذه الظاهرة: “توجد في بعض اللغات حساسية نحو ألفاظ معينة ربما ارتبطت ببعض المعاني التي لا يحسن التعبير عن بصراحة. ولذا تتجنبها وتستعمل بدلها ألفاظًا أخرى أقل صراحة”[2].

تتضح هذه الظاهرة في الكلمات المعبرة عن العلاقة الجنسية وأعضاء التناسل وما يرتبط بالتبول والتبرز وما إلى ذلك. فتوجد في كل لغة كلمات مفضوحة ينفر منها الناس، وأخرى معماة مكنية يقبلون عليها رغبةً في أن تصبح الصورة مغطاةً بستار رقيق يخفي شيئًا من معالمها، ويُقلِّل من وضوحها، فلا تخدش الحياء، ولا تبعث على النفور والاشمئزاز.[3] ففي لغتنا العربية على سبيل المثال نستعمل عبارة “قضاء الحاجة” للإشارة إلى عمليتي التبول والتبرز، ونشير إلى مكان قضاء الحاجة بكلمات غير مباشرة مثل “دورة المياه”أو “بيت الراحة” وغيرهما. وحينما تعرَّض القرآن الكريم للعملية الجنسية، استعمل الكناية والتلميح واستغنى بهما عن التصريح، فقال جلَّ وعلا في سورة البقرة: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّىٰ شِئْتُمْ}، وقال: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَىٰ نِسَائِكُمْ}، وقال: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ}، وقال في سورة المجادلة: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا}، وقال في سورة النساء: {نِّسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ}. ونلاحظ كذلك أن عامة الناس يشيرون إلى الاتصال الجنسي بكلمات أخرى مُلطَّفة مثل النوم والاستحمام. وفي اللغة الإنجليزية يُستعاض مثلًا عن كلمة “urinate” بعبارة “relieve oneself” إلى غير ذلك من الأمثلة.

أحيانًا يكون التشاؤم من بعض الأشياء أو الشعور بالخوف منها أو الاشمئزاز من ذكرها داعيًا إلى تكنيتها أو تعميتها، فيختار المرء لتلك الأشياء ألفاظًا ألطف لا يفزع أو يتشاءم منها السامع أو القارئ. فيتحاشى الإنجليزي مثلًا ذكر الموت بلفظ صريح فيصف مَنْ مات بعبارات مثل “he passed away” أو “he met his maker”، ويشير إلى مرض السرطان بعبارة “the big C”. يقول د. إبراهيم أنيس: «وسرُّ كل تلك التكنية أو التعمية هو ما استقر في ذهن الإنسان منذ القدم من الربط بين اللفظ ومدلوله ربطًا وثيقًا، حتى إنه يعتقد أن مجرد ذكر الموت يستحضر الموت، وأن النطق بلفظ الحية يدعوها من جحرها، فتنهش من نادها أو ذكر اسمها».

قد يكون التَّلطُّف في التعبير من باب تفادي إلحاق أي أذى نفسي بالغير أو إيقاعه في الحرج. والأمثلة على ذلك كثيرة، منها مثلًا الإشارة إلى المعاقين بعبارة “ذوي الاحتياجات الخاصة”، وإطلاق كلمة “بصير” على الأعمى، وإطلاق كلمة “مولى” – التي تعني السيد – على العبد، وتسمية الدول المتخلفة بالدولة النامية. ومن أمثلة ذلك في اللغة الإنجليزية وصف العاطلين عن العمل بعبارة “Between jobs” أو “Job seekers”، ووصف الكاذب بأنه “Economical with the truth”.

وعادةً ما يتخذ البعض من ظاهرة التَّلطُّف وسيلةً للمواربة والمراوغة، لا سيما في مجال السياسة حيث اعتاد رجال السياسة على إطلاق الألفاظ والتعبيرات الملطفة من أجل قلب المفاهيم وإلباس الباطل ثوب الحق وتحريف الكلم عن مواضعه، ولما لا وهم أمهر الناس في التلاعب بالألفاظ واستغلال هذه الظاهرة لخداع الشعوب وتغييب وعيهم. وخير مثال على ذلك تلك العبارات الكثيرة التي استعملتها الإدارة الأمريكية في أثناء الحرب على العراق، فرأيناهم مثلًا يصفون مرتكبي فظائع التعذيب في سجن أبو غريب بأنهم مجرد “few bad apples”! ويصفون الاعتداء العسكري بأنه مجرد “intervention”، ويُطلقون على الدمار الناتج عن هذا الاعتداء “Collateral damage”.

جديرٌ بالملاحظة أن الألفاظ والعبارات الملطفة دائمةُ التطور والتغير، فما يستعمله جيل معين من ألفاظ ملطفة قد يستقبحه جيل آخر. فكلمة pill على سبيل المثال كانت تُستعمل للإشارة إلى أي قرص من الدواء يستعمل لأي غرض، ولكن بعد شيوع استخدام وسيلة منع الحمل عن طريق الأقراص أصبحت هذه الكلمة تعني “قرص منع الحمل”، وصار الكُتّاب يتحرجون من استعمال هذه الكلمة في معناها العام وفضَّلوا عليها كلمة tablet.

ومن ثمَّ كان لزامًا على المترجم أن ينتبه إلى هذه الظاهرة ويراعي في ترجمته أن تكون مساويةً للنص الأصلي في درجة التَّلطُّف، وأن يضع في اعتباره ما تحمله الكلمات والعبارات من معانٍ إيحائية حتى لا يقع في ورطة كالتي وقع فيها صاحبنا المستشرق. فالكناية والتعمية مستحبّتان بل مطلوبتان في مواقف شتّى، وفي التلميح ما يُغني أحياناً عن التصريح. فتلطفوا يرحمكم الله!

 

[1] في كتابه المُعنوَن «عن الحرية أتحدث»

[2] كتاب علم الدلالة، تأليف الدكتور أحمد مختار عمر

[3] كتاب دلالة الألفاظ، تأليف الدكتور إبراهيم أنيس.