معنى الترجمة العلمية
د. محمد عناني
أرجو في هذا الحديث أن أصحح خطأ شاع حتى كاد يصبح صحيحًا بسبب شيوعه، ألا وهو ما يسمى بالترجمة العلمية، والمقصود بها ترجمة العلوم الطبيعية مثل الفيزياء والكيمياء والبيولوﭼـيا، وما يتصل بها من قريب أو بعيد مثل الطب بفروعه والهندسة بفروعها، إلى جانب الرياضيات، وهو ما يعنى استبعاد العلوم التي نطلق عليها صفة العلوم الإنسانية منذ القرن التاسع عشر، كأنما كانت ترجمتها لا تنتمى إلى الترجمة العلمية بمفهومها الشائع، فالناس يتصورون أنها ’غير علمية‘ – وهذا خطأ فاحش – بل قد تنصرف إلى ما يسمى الترجمة العامة، والمقصود في مناهجنا الدراسية بها ترجمة المادة الإعلامية، أي لغة الصحف ووسائل الاتصال الجماهيرية الأخرى [ولهذه مشاكل لا حصر لها ولا مجال لمناقشتها هنا] إلى جانب ما يسمى بالعلوم النظرية مثل التخصصات المختلفة في كليات الآداب والحقوق والتجارة، وسوف أبين أن ترجمة هذه التخصصات من الفلسفة إلى الاجتماع إلى التاريخ والجغرافيا والاقتصاد والسياسة والقانون والتجارة، واللغات، ترجمة علمية بأدق معنى للكلمة، وأن الخطأ الذي أدى إلى عدم إدراك ذلك خطأٌ تاريخيٌّ توارثناه، ولا نكاد نستطيع التخلص منه أو حتى تعديله، ومن ثم أبدأ بعرض القضية عرضًا علميًّا بالمعنى الصحيح للكلمة، حتى ولو اقتصرت على المفهوم الديكارتي العقلاني الذي يثير مناظرات لا تزال مندلعة بين الفلاسفة.
بدأ الخطأ في أواخر الثلاثينيات حين تحولت شهادة البكالوريا في التعليم العربي في مصر إلى شهادة التوجيهية، وكانت أولًا شهادة عامة لا تتضمن شعبًا متخصصة وتسبقها شهادة الكفاءة وهي أيضًا شهادة عامة أقرب إلى التعليم المتوسط في هذه الأيام، ولما جاءت التوجيهية جاءت معها شهادة تسبقها هي شهادة الثقافة العامة، ويدرس الطالب فيها جميع التخصصات العلمية والنظرية والأدبية والفنية، ثم تأتى التوجيهية لتنقسم إلى ثلاث شعب هي الشعبة العلمية والشعبة الأدبية وشعبة الرياضيات. وسُمِّيَتْ بالتوجيهية لأنها توجه الطالب إلى دراسة جامعية متخصصة إما في العلوم الطبيعية وإما في العلوم النظرية التي كانت ولا تزال تسمى الآداب، وأما الشعبة الرياضية فكانت تؤهل الطالب أساسًا لدراسة الهندسة، وإن كان المتخصص فيها يستطيع التخصص في أي مجال يريده. واستمر هذا النظام قائمًا حتى عام 1955 إذ أُلغيت شهادة الثقافة العامة، مثلما ألغيت الكفاءة قبلها، وأصبحت التوجيهية تسمى شهادة إتمام الدراسة الثانوية، واستمر التقسيم قائمًا بين العلمي والأدبي والرياضي، مع تعديلات في شكل هذه السنة فهي أحيانًا سنة وأحيانًا سنتان وفقًا لأمزجة وزراء التربية والتعليم، والتي يشير إليها الناس باسم ’الثانوية العامة‘.
أدى شيوع هذا النظام وقبوله إلى شيوع الظن بأن الشعبة العلمية التي يشار إليها بالمختصر ”علمي“ مضادة للشعبة النظرية التي يشار إليها بالمختصر ”أدبى“. ومرور ما يربو على نصف قرن من هذه التقاليد جعل الناس تنظر إلى العلم والتعليم نظرة ثنائية، وحتى حين ازدهرت الترجمة في النصف الأخير من القرن العشرين، وتُوِّجَتْ عالميًّا بظهور المبحث العلمي البيني الجديد، وهو دراسات الترجمة – نتيجة التلاقي بين علم اللغة الذي ازدهر في الفترة نفسها وبين دراسة الأدب المقارن الذي أصبح يشغل موقعًا بالغ الأهمية في جامعات العالم – أقول حين حدث ذلك، لم تتغير نظرة الباحثين والممارسين إلى معنى ’العلمي‘ و’الأدبي‘، ولم يحاول أحد أن يستبدل ’بالأدبي‘ صفة أدق مثل العلوم النظرية أو العلوم الإنسانية، بل ظللنا أسرى تركة الثانوية العامة، فكأنما أصبحت ترجمة كتاب في الفلسفة أو علم الاجتماع مساوية نوعيًّا أو قل موازية لترجمة عمل شعرى أو مسرحي أو روائي، فكلها ”أدبى“! لن يقول أحد بهذا اليوم بطبيعة الحال فنحن المترجمين والدارسين نعرف الفرق بين ترجمة كتاب مثل Wahrheit und Methode أي الحقيقة والمنهج لجادامر أو Sein und Zeit أي الوجود والزمن لهايديجر وبين ترجمة رواية لكاتب أجنبي معاصر، فالفروق أوضح من أن تذكر ولكن الأعمال العلمية في الإنسانيات منفية من مملكة ”العلمي“، أي إن إقصاء العلوم الإنسانية من ساحة الترجمة العلمية أصبح أمرًا شائعًا إلى حَدٍّ يدعو للقلق، وأظن أنه قد آن الأوان للنظر في الخصائص التي تجعل العمل علميًّا أو تنفى عنه صفة العلم، وأن ننظر بعد ذلك (كما أنتوى أن أفعل في هذا الحديث) إلى الخصائص التي تجعل الأدب أدبًا أو الشعر شعرًا. وسوف أستعين في عرضي بالأمثلة حتى يستبين لنا الأمر بوضوح وجلاء.
* * *
قبل أن نحدد الصفات اللغوية التي تتميز بها الأعمال العلمية عن غيرها دعونا نلقى نظرة على تقسيم العلوم الذي ورثناه فيما ورثناه من العالم القديم. كان أرسطو يشير إلى المعارف كلها بلفظة (dianoia) وهى تعنى الذكاء والتفكير أيضًا، وكان يقسمها إلى قسمين، قسم نظري وقسم عملي، فأما العلوم النظرية عند أرسطو فهي التي يمكن أن تصفها قوانين دقيقة كالفيزياء والرياضيات والميتافيزيقا، والمثل الأعلى للعلم النظري له هو الحكمة النظرية أو الفلسفية (sophia) وهى معرفة علمية تمتزج بالعقل الحدسي، وأما العلوم العملية فلها مثل أعلى هو الحكمة العملية أي (phronesis) وهذه تعتمد على السياق دائمًا وتتطلب خبرة واسعة بالتفاصيل الدقيقة التي تُكْتَسَبُ على مدى سنوات العمر. وأما العلوم الشعرية أو الإنتاجية عند أرسطو (techné) فتتعلق بالوصول إلى نتائج نهائية، وهى مجال الحرف والمهارات، بما في ذلك الإنتاج الفني، والمصطلح الرئيسي هنا هو الصنعة (poiesis) أي القدرة على صنع شيء أو إمكان صنع شيء، وينتمى إلى هذا المجال فن الشعر، كما يتضح من الاسم اليوناني (انظر الفصل الخاص ’بالهرمانيوطيقا وعلم الجمال والفنون‘ الذي كتبته بياتا سيروي (Beata Sirowy) في موسوعة الهرمانيوطيقا 2015، ص 526 و538)(1). ومن الطريف أن نذكر أن أرسطو كان يرسى في كتبه أسسًا للمثل الأعلى للإنسان، ويرى فيه جمعًا ما بين الخَلْقِ والخُلُق (Kalos K’agathos) على أساس ما يسمى التعليم التكاملي (paideia) الذي يقدمه ويرنر جيجر (Werner Jaeger) في كتابه الذي يحمل هذا العنوان(2)، قائلًا ”إنه عملية تربية المرء وتعليمه ليصبح حقًّا مخلوقًا في أحسن تقويم، أي وفق الطبيعة الإنسانية الحقة الصادقة“، ويضيف الكاتب إن لنا أن نفهم ذلك في اليونان القديمة بمعنى أن حُسْنَ الخَلْقِ والخُلُقِ يتبدى في ”المثل الأعلى للشهامة في الشخصية الإنسانية الكاملة، المتناغمة ذهنًا وبدنًا، ذات الثبات والأمانة، في القتال وفى الكلام، وفى الجِدِّ وفى الهزل“ (ص 62).
أي إننا نجد في التقسيم الكلاسيكى لهذه العلوم اتجاهًا نحو فائدة عملية، إلى جانب بذور ما نصفه اليوم بعلم الجمال الذي ولد في القرن الثامن عشر في أوروبا وينسبه الكثير إلى عمانويل كانط، وإن كنا نجد ما أسميته البذور عند أفلاطون في المائدة وفى فيدرا حيث يقول:
”إن النظام الأحق باتباعه… الانطلاق من مظاهر جمال الأرض، والصعود في طلب ذلك الجمال الآخر، باستخدام هذه المظاهر باعتبارها خطوات فقط، والانتقال من واحدة إلى الثانية، ومن الثانية إلى جميع الأشكال الجميلة، وإلى الأفعال الحسنة، ومن الأفعال الحسنة إلى الأفكار الجميلة حتى يصل المرء إلى فكرة الجمال المطلق فيعرف أخيرًا جوهر الجمال“ [مقتطف من طبعة لأعمال أفلاطون عام 1964] (3).
والفكرة التي أراها في تقسيم العلوم الكلاسيكي هي وحدة المعرفة التي عاد إليها الفيلسوف الإنجليزي صمويل ألكسندر، في القرن العشرين، ولكن معالجته كان يغلب عليها الحدس وما نسميه العاطفة الدينية اليوم، وهو الذي نفَّر المحدثين منه، وإن لم يُنَفِّرْ الدكتور محمد كامل حسين، مؤلف قرية ظالمة وأستاذ العظام في كلية الطب، الذي كتب كتابًا بعنوان وحدة المعرفة في أوائل الستينيات يدين فيه بالكثير للفيلسوف الإنجليزي، دافعًا العقاد إلى كشف هذا الدَّيْن الثقيل، الأمر الذي دفع الدكتور حسين إلى التوقف عن الخوض في الفلسفة والأدب جميعًا(4).
هذه الوحدة المعرفية يعاد اكتشافها اليوم، فعلم الجمال أصبح علمًا من العلوم الفلسفية، وأصبح بعض الكتاب يعترفون بالدَّيْن الذي يدينون به لأرسطو الذي يقول في كتابه الميتافيزيقا:
يخطئ من يزعم أن العلوم الرياضية لا تقول شيئًا عن الجمال والخير، إذ إن هذه العلوم تقول وتثبت الكثير عنهما، فالأشكال الرئيسية للجمال هي النظام والتناظر والدقة، وهي التي تثبتها العلوم الرياضية إلى حد بعيد. وما دامت هذه (مثل النظام والدقة) عللًا واضحة لأشياء كثيرة، فالواضح أن هذه العلوم لابد أن تعالج هذا النوع من المبادئ العِلِّيَّة كذلك (أي الجمال) باعتباره عِلَّةً بمعنى من المعاني(5).
ولكن الاتجاه العام في القرن الثامن عشر، على الرغم من جهود كانط، كان يعتبر علم الجمال معرفة ناقصة، فبهذا كان يقول لايبنتس (Libniz) [انظر ﭖ. جاير p. Guyer في موسوعة ستانفورد الفلسفية 2007] وبهذا قال باومجارتن (Baumgarten) الذي يقول في رسالته للماجستير عام 1735 إن الجمال معرفة حسية (epistêmê aisthêtikê) ما دام يتناول ما يحسه المرء وما يتخيله، قائلًا ”إن الأشياء التي نعرفها نتوسل في معرفتها بالملكة العليا باعتبارها موضوع المنطق، والأشياء التي ندركها نتوسل في معرفتها بملكة أقل مكانة باعتبارها من ملكات الحواس أو علم الجمال“ (مقتطف في سيروى 520). ولكن باومجارتن يصدر عام 1750 كتابًا بعنوان علم الجمال/ علم الإدراك الحسى يقول فيه إن علم الجمال و/أو الإدراك الحسى ”باعتباره نظرية في الآداب هو المعرفة الأقل منزلة، وفن التفكير المشابه للعقل“ (مقتطف في جاير ص 13).
ولقد ظلت وحدة المعرفة تمثل الجانب النظري للعلم أو ما يوصف بأنه علمٌ في أوروبا من القرن الثالث الميلادي إلى التاسع، وهى الفترة التي يطلق عليها المؤرخون العصور المظلمة، مع ما في ذلك من تجنٍّ علينا في الشرق، حيث انبثق نور العلم في الفترة من القرن الثامن إلى الحادي عشر ومهد لظهور ما يُعتبر القرونَ الوُسْطَى الراشدة (The Mature Middle Ages) كما يطلق عليها موريس بوشوه (Maurice Beuchot) في القرنين التاليين، أي الثاني عشر والثالث عشر(7)، إذ كانت الترجمات من اليونانية إلى اللاتينية، ومن العربية أيضًا، خصوصًا كتابات ابن رشد الذي عاش في القرن الثاني عشر في الأندلس، تمثل نبعًا جديدًا للفكر الإنساني الذي بدأ مرحلة التطور الذي مهد لبزوغ عصر النهضة. وفى هذا العصر بدأ التقسيم التقليدي للعلوم يختلف بعض الشيء، إلى حد زعزعة الإيمان بوحدة المعرفة، بسبب بوادر التمرد على تراث التأويل الديني للنصوص، وسيطرة تفاسير معينة للنصوص الدينية أيضًا، وكان المرجع في هذا كله ما نقله الدارسون للتراث المذكور باللغة اللاتينية، فمثلما كان الكتاب يكتبون تاريخ العالم عندنا منذ بدء الخليقة حتى عصرهم، كان الأوربيون يكتبون ذلك التاريخ من وجهة نظرهم، وظل علم التاريخ خاضعًا لرؤى أصحاب الخيال الذين حذقوا تأويل النصوص، وكانوا يقبلون ما ورثوه من السلف فيزيدون عليه، حتى أصبح التاريخ أبعد ما يكون عن علم التاريخ الذي نعرفه اليوم. وقس على ذلك علم الجغرافيا والخرائط التي لم تكن لها علاقة تذكر بتضاريس الأرض ولا حدود البر والبحر، وما قلته عن هذا وتلك يقال عن سائر العلوم الإنسانية، بل والطبيعية، وقد يدهش المرء حين يكتشف أن العلامة إسحاق نيوتن واضع قوانين الحركة ومكتشف علم الضوئيات (Optics) أو قل مؤسسه، كان في القرن السابع عشر، عصر العلم الطبيعي، لا يزال يؤمن بالسيمياء أو الخيمياء (Alchemy) أى علم تحويل المعادن المنحطة إلى ذهب.
ونحن نستدل على تقسيم العلوم في تلك الفترة برصد الدارسين لما يسمى العلوم النظرية التي أصبحنا نعنى بها ما كان يسمى باللاتينية (liberalius) ويستخدمها الأمريكيون في تعبير (liberal arts) فالصور التي كانت شائعة للتعليم آنذاك كانت تمثل الوفاء لمذهب أرسطو في الجمع بين حسن الخَلْق والخُلُق، وكذلك كانت كلمة الأدب في اللغة العربية تجمع بين المعنى العلمي والمعنى الأخلاقي، فالمؤدب هو المعلم، لأن العلم يغرس الأخلاق الفاضلة، ومادة التأديب اللغوية كانت تعتمد على صفاء الذهن ومن ثم على دقة التفكير والقدرة على البيان أي (lexis) عند أرسطو كما ترجمها محمد حمدي إبراهيم، وكان الشعر والنثر يجدان أخصب تربة في عقول النشئ، ويوازى هذا بعض ما نقل عن تراث اليونان في قصة أﭘـولونيوس (Appolonius) الصوري، نسبة إلى مدينة صور في لبنان (Tyre) والتي اندمجت في قصة ﭘـيركليس السياسي الأثيني الذي عاش في القرن الخامس قبل الميلاد، إذ تقول تارسيا (نظيرة مارينا في مسرحية شيكسبير (Pericles):
(8)(Habeo auxilium studiorum liberalium, perfecta erudita sum).
أي إنها تقول: إنني انتفعت بدراسة الآداب والعلوم النظرية [الآداب] وتعلمت التعليم الكامل. وكانت هذه العلوم النظرية تشمل الأدب والفلسفة واللغات والتاريخ أساسًا، إلى جانب معرفة نظرية أي غير متخصصة أو تطبيقية بالعلوم الطبيعية. وفى ذلك العصر كانت الآداب تنقسم إلى سبعة أقسام، القسم العلوى يتكون من أربعة أفرع هي الحساب والهندسة والفلك والموسيقى، ويسمى الرباعية (Quadrivium) والقسم السفلى يتكون من ثلاثة أفرع هي النحو والمنطق والبلاغة ويسمى الثلاثية (Trivium) والواضح من تأمل هذا التقسيم أن القدماء كانوا ينظرون نظرة بالغة الاختلاف عن نظرتنا إلى ما يسمى العلوم النظرية أو ما أصبحنا نسميه – على ما في هذا من عدم الدقة – العلوم الإنسانية أو الإنسانيات أحيانًا. فإذا تأملنا نظرة القدماء وجدنا أنها تهتدى بنظرة أرسطو التي عرضتها آنفًا عن العلوم النظرية في قسمها العلوي الخاص بالدقة أو القوانين الدقيقة، ولكنها تختلف قليلًا في قسمها السفلى بإدراجها البلاغة التي تتطلب مواهب فردية مختلفة ومتفاوتة لاعتمادها على وجود طرفين هما الكاتب والقارئ. ولكنها جميعًا تختلف عن الفرعين العلميين الآخرين عند أرسطو وهما الفرع العملي (الذي تطور إلى العلوم الاجتماعية داخل الإنسانيات، وإلى العلوم التطبيقية في العلوم الطبيعية) والفرع الإنتاجي الذي يشمل الفنون والحرف والشعر والآدب أي الكتابة الإبداعية.
وحصيلة هذا كله أن الإنسان وصل في القرن التاسع عشر إلى ذروة في العلوم الطبيعية التي أسماها الألمان (Naturwissenschaften) اهتداء بالعلم التجريبي الذي بذر بذرته ﭬـيكو (Vico) في كتابه العلم الجديد، وأرس قواعده ديكارت الذي وضع المنهج العلمي الذي لا يزال مطبقًا في الفيزياء والكيمياء والبيولوﭼـيا إلخ، وينسب إلى الألمان أيضًا وضعهم للعلوم الإنسانية التي أطلق عليها ديلثى صفة (Geisteswissenschaften) واتبعه في ذلك المحدثون جميعًا، بعد أن اقتنعوا بجدوى التسمية، بعد أن كان ﭼـون ستيوارت مل (Mill) يترجمها بالعلوم الأخلاقية في القرن التاسع عشر. والتمييز هنا مهم لا بسبب التفرقة بين الطرفين فقط بل بسبب تداخلهما فيما يختص بقضيتنا الأساسية وهي اللغة ومن ثم لغة الترجمة ومناهجها.
يختلف العلم الطبيعي عن العلم الإنساني، إن شئنا التبسيط، في مادته، أي في المادة التي يتناولها بالبحث، فالعلم الطبيعي يدرس الظواهر المادية، والعلم الإنساني يدرس الظواهر البشرية، ولكنهما يلتقيان في بعض المعالم ويختلفان في بعضها الآخر، فهما يقومان وفق المثال الديكارتي العقلاني على خمس خطوات يعرفها كل مبتدئ ونلخصها في الملاحظة، والافتراض، والتجريب، والنظرية، والتنبؤ. وقد تحل محل التجريب طرائق أخرى مثل الاستقراء والاستنباط والقياس، ولكن الغاية دائمًا واحدة وهى وضع النظرية القادرة على التنبؤ، ولكنهما يختلفان في وسائل الاستقراء وأساليب الاستنباط بل وطرائق التجريب والقياس، أي إننا نشهد أكثر من منهج علمي واحد، كما إن تعدد المناهج لا ينفى عنها صفة العلمية، وقد تكون الغايات مختلفة، أي ربما كانت غاية منهج علمي معين تعديل نظرة معينة بغرض تعديل التعامل البشرى معها، وقد لا يكون له مثل هذا الغرض في الحاضر، بل باعتباره خطوة تتلوها خطوات للكشف عن الحقيقة، كما يقول هايديجر وأتباعه.
* * *
في صلب هذا وذاك كله نجد اللغة المتسمة بالتجريد والتعميم. هذان من خصائص اللغة العلمية سواء كانت في مجال العلوم الطبيعية أو الإنسانية. ويتمثل التجريد والتعميم في المصطلحات الخاصة بكل فرع من فروع العلم، بل لا يكاد يتميز فرع عن فرع إلا باختلاف مصطلحاته، فاللغة كائن مراوغ بمعنى أنه يكتسب لون الإناء الذي يوجد فيه، والمعنى المعجمي الثابت للفظ وهم، فالمعجم يرصد أو ينبغي أن يرصد كل معانى الألفاظ وفقًا لاستعمالاتها، وقد يغير العالم من معنى لفظة شاعت بدلالة معينة حتى يجعلها تناسب مقصده، ومجال التمييز بين المعاني المختلفة في لغة العلوم قد يتطلب الإلمام بهذه العلوم، ولكنه يتطلب قبل ذلك معرفة اللغة والاستعداد لتقبل تغير معانيها، من علم لعلم ومن عصر لعصر، وتستوى في هذا العلوم الطبيعية والإنسانية، بمجرداتها وتعميماتها.
لغة العلوم إذن بشتى أنواعها لغة تجريد وتعميم، وهى تمثل المستوى الأعلى من مستويات الفكر الإنساني، على عكس لغة التجسيد والتخصيص التي تتميز بها المستويات اللغوية الشائعة في الحياة اليومية، وهذا تمييز عام لا ينفى استعمال لغة العلم للتجسيد والتخصيص، مثلما لا ينفى استخدام اللغة اليومية للمجردات والتعميمات، لكنني أحدد السمات الغالبة على كل لغة، وأراها من منظور القصد منها، وهو الذي يهدينا حين نتحدث عن الترجمة، فاللغة العلمية تتميز إلى جانب هذا – بل قبل هذا كله – بالقدرة على التوصيل، أي على البيان أو بلغتنا المعاصرة القدرة على الوضوح، أي توصيل المعلومات. فإلى جانب التجريد والتعميم تتميز اللغة العلمية بوضوح الهدف وهو التعبير بدقة عن المعاني المراد توصيلها للقارئ بمستوى لغوى يفهمه دون مشقة. وهي إن شئنا الإيجاز لغة شفافة. وقد تتميز بالإيجاز أو الإسهاب، ولكنها موجزة أو مسهبة لا تلفت النظر إليها بل توجه النظر إلى الحقيقة العلمية المطلوب نقلها، فهي وسيلة، مثلها الأعلى الدقة والوضوح. ولا يعنى هذا أن جميع العلماء يستطيعون تحقيق ذلك المثل الأعلى، ولكنهم على الأقل يهتدون به.
وفى مقابل هذا نجد اللغة المستخدمة في الأدب، أي في الفنون الأدبية التي اتفق الناس على أنها أدبية مثل الشعر والنثر الفني بأشكاله القصصية والمسرحية والخطابية وما إلى ذلك. فنحن لا نواجه هنا لغة شفافة تتميز بالدقة وتشيع فيها المجردات والتعميمات، بل نجد لغة مادة إنسانية تتميز بصياغة خاصة تنقل إلى القارئ خبرات جديدة وأفكارًا جديدة وصورًا لم يألفها أو ألفها ولم يفهمها لحياة الإنسان، بأساليب قادرة على إثارة مشاعر معينة لديه، وقد تكون ذات جمال خاص، وقد يكون القصد منها إبراز الجمال نفسه. هذه اللغة التي نسميها أدبية وأحيانًا شعرية ليست شفافة بل تلفت النظر إليها، وتدعو القارئ إلى تأملها، لأن معانيها تقبل التفسير بوجوه كثيرة بل تقبل التأويل والرمز. والقارئ يشارك إلى حد كبير في صوغ مادتها النهائية، كما يتبدى لنا من اختلاف القراء في تذوق قصيدة ما وتفسيرها، وكما نرى في اكتساب الأعمال الأدبية العظيمة معان كثيرة يختلف الناس حولها جيلًا بعد جيل، ويسهر الخلق جرَّاها ويختصمون!
هذا العرض النظري يتطلب أمثلة وإلا وقعنا في شرك التجريد والتعميم والغموض وقانا الله وإياكم شره أو شروره! فلنضرب أمثلة من اللغة العلمية في العلوم الطبيعية ولنختر هذه الجملة من المجلة العلمية التي تعتبر من كبار مجالات العلوم الطبيعية في العالم وهي Nature في عدد قديم، والتي وردت في مقال عن المواجهة التي كان الاتحاد السوفيتي يخشاها بين إسرائيل ومصر، في حالة تهديد جولدا مائير – وإن كان تهديدًا أجوف – باستخدام القنبلة الذرية في سيناء (والجملة مقتطفة في مقال في جريدة إنجليزية حديثة):
With borders close to the Middle East, the former Soviet union was only too aware of the dangers to itself of Israel’s using a nuclear device, as a last resort, in any escalating confrontation with its Arab neighbors, as the intensity of radioactivity should defeat the rudimentary shelters built, according to informed sources, with low interfacial resistance in the adjacent former Soviet republics.
المقال الذي وردت فيه هذه الجملة مقال يتحدث عن خطر الإشعاع الذرى، الناجم عن إمكان تفجير أي سلاح نووي. ما وجه الصعوبة في هذه العبارة؟ هل تكمن الصعوبة في هذين التعبيرين العلميين وهما شدة الانحلال الإشعاعي والمقاومة بين السطحية المكتوبان هنا بحروف مائلة؟ أقول إن هذين المصطلحين واردان في المعاجم الخاصة بالفيزياء، مع اختلافات بين واضعي المقابلات العربية، فهما لا يمثلان صعوبة، ولكن الصعوبة الحقيقية تنشأ من بناء الجملة المركبة، وهي التي فشل المترجم فشلًا ذريعًا في نقلها إلى العربية في إحدى الصحف العربية الحديثة. إذ إن ترجمة هذه العبارة تقتضي معرفة ببنآء اللغة الإنجليزية أو أبنيتها، ومنها على سبيل المثال الابتداء بعبارة وصفية تعتبر من الزاوية النحوية ثانوية، قبل المجيء بالجملة الرئيسية التي تنتهي بكلمة جيرانه، وملحقاتها التي تشتمل على المصطلحين المذكورين. والترجمة المعقولة يجب أن تغير هذا البناء حتى تصل إلى مرمى الكاتب بوضوح – مثلاً:
كان الاتحاد السوﭬـيتي السابق شديد الوعي، بسبب قرب حدوده من الشرق الأوسط، بالأخطار التي تهدده إذا فجرت إسرائيل سلاحًا نوويًّا، باعتباره الملجأ الأخير، في حالة تصاعد أي مواجهة بينها وبين جيرانها من العرب، لأن شدة الانحلال الإشعاعي لن تقف أمامها عوائق من المخابئ ذوات الجدران ذات المقاومة الضعيفة للتوصيل الحرارى، وفق ما تقوله المصادر المطلعة، فهي مخابئ بدائية بنيت في الجمهوريات السوﭬـيتية السابقة المتاخمة للشرق الأوسط.
والملاحظ أنني لم ألتزم بالترجمة التي يوردها معجم الفيزياء للمصطلح الثاني، لأن السياق اقتضى إيضاحًا أكبر، ولكن المهم هو أن الترجمة واضحة، وعدد الكلمات متقارب، وإن كنت قلت ذات المقاومة الضعيفة للتوصيل الحراري بدلًا انخفاض المقاومة بين السطحية لأنني وجدت أن السياق يستدعى إيضاح المعنى المضمر الموجز، فواضع القاموس ملتزم بالكلمتين الأجنبيتين ولكن المترجم لابد له أو يتحتم عليه أن يوضح ولو بالشرح بالإضافة اللازمة لتوصيل المعنى المراد فقط.
ولأزد الأمر إيضاحًا: تُبنى المخابئ بجدران مزدوجة، ويترك بين شقي الجدار مسافة صغيرة فارغة أي بها هواء، والهواء رديء التوصيل للحرارة، على نحو ما يحدث فيما يعرف بزجاج النوافذ المزدوج، إذ تترك بين اللوحين مسافة فيها هواء يعمل على منع الحرارة المولدة لتدفئة الغرفة من الهروب أي الانتقال بيسر من خلال الزجاج إلى خارج المنزل. وإذن فإن جدران المخابئ تصون من بداخلها من الحرارة المولدة من الإشعاع الذرى، ولكنها ليست ذات كفاءة كبيرة، أو كما يقول الكاتب، مقاومتها لتوصيل الحرارة بين شقي الجدار ضعيفة، وهكذا فلا تكفي للحفاظ على أرواح من في المخابئ. ما المراد بهذا؟ المراد هو ما جاء في الترجمة، لأنه من العبث شرح أصل المصطلح للقارئ غير المتخصص، وأما المتخصص فيعرف المراد لأنه يلم بأسلوب بناء المخابئ!
الترجمة العلمية في هذا المثال اقتضت إلمام المترجم بالموضوع الذي يترجمه، ولكنها اقتضت أمرًا آخر أهم، ألا وهو الإحاطة بأساليب التعبير باللغة الإنجليزية. خذ مثالًا آخر من علم من العلوم الإنسانية:
The complex interactions between hermeneutics and the social sciences can be simplified historically into two anti-positivist waves: one in the mid-nineteenth century, passing into the early twentieth, and the other in the mid-to-late twentieth. This is the case at least in Europe; in Norh America, the pragmatist tradition which fed into the symbolic interactionism was both more continuous across the two centuries and also less pre-occupied with anti – positivism and what has been called “methodological dualism”: the insistence on the differences between natural and social sciences. (9)
ما المصطلحات العلمية التي تتطلب الشرح هنا؟ إنها بترتيب ورودها في النص والمكتوبة بحروف مائلة هي مناهضة الوضعية (أو المذهب الوضعي)، والبراجماطية [كلمة معربة] ومذهب التفاعل الرمزي وأخيرًا الثنائية المنهجية. إنها مجردات عسيرة الفهم على غير المتخصص، ولكنها وهو المهم مصطلحات تتطلب الدقة في النقل والإيضاح مصحوبًا بشرح أو غير مصحوب. وأهم من هذا أن المترجم يستطيع أن يجد إيضاحًا لها في المعاجم العامة لا المتخصصة، ولكن للمترجم أن يشرح في هامش بإيجاز أن المذهب الوضعي يقول باعتماد المعرفة على المعطيات الحسية ونبذ الحدس أو طلب أصول قصوى لها، وربما عرف من المعجم أيضًا أن المذهب ينسب لواضعه أوغسط كونت (Comte) الفرنسي، وأن يشرح البراجماطية بأنها المذهب الذي يحدد معنى المفاهيم وحقيقتها جميعًا بما يترتب عليها عمليًّا، وأنه ينسب إلى ﭘـيرس وويليام ﭼـيمز، وأما التفاعل الرمزي فهو الدراسة لما يرمز له التفاعل بين أى شيئين، وهو المذهب المبنى على البراجماطية.
هذا إذن أيضًا نص علمي حافل بالمجردات، ويتطلب إما متخصصًا في الفلسفة يفهم هذه المصطلحات ويعرف الترجمات العربية المقبولة لها وإما غير متخصص يستعين بالمعاجم، العامة منها والمتخصصة لشرح ما يستغلق على القارئ من معانيها، ولكن الأمر يتطلب من هذا ومن ذاك أن يكونا على إحاطة عميقة باللغة الإنجليزية وطرائق تعبيرها. وأول معضلة تقابله وجود مبتدأ طويل يتكون من تسع كلمات قبل أن يأتي الفعل، وبعده تأتى عبارة مبنية للمجهول، يتبعها حال (adverb) ثم يأتي خبر المبتدأ (الذي أصبح فاعلاً في النص الإنجليزي) وجملتان ملحقتان به. وسوف أورد فيما يلي الترجمة المنشورة، وأترك التعليق على ما فعله المترجم فيها لفطنة القارئ حتى انتقل إلى أنواع النصوص، وهي النظرية التي أتى بها علم دراسات الترجمة:
تتسم العلاقة بين الهرمانيوطيقا والعلوم الاجتماعية بالتفاعل المعقد، وإن كنا نستطيع تبسيطه تاريخيًّا بتقسيمه إلى موجتين من موجات مناهضة المذهب الوضعي، تبدأ الأولى في منتصف القرن التاسع عشر وتستمر حتى بواكير القرن العشرين، وتبدأ الثانية في منتصف القرن العشرين وتستمر حتى أواخره. وهذا هو الحال في أوروبا على الأقل. وأما في أمريكا الشمالية، فإن التقاليد البراجماطية التي غذت مذهب التفاعل الرمزي فكانت أكثر استمرارًا عبر هذين القرنين، كما كانت أقل انشغالاً بمناهضة المذهب الوضعي، والمذهب الذي أصبح يطلق عليه اسم ”الثنائية المنهجية“، وهو الذي يعنى الإصرار على الاختلافات بين العلوم الطبيعية والعلوم الاجتماعية(10).
الترجمة فيما أظن واضحة، وعدد الكلمات في النصين واحدًا تقريبًا ولكن المهم أن الترجمة تبين إلى أي مدى يمكن للمترجم أن يتحرر من الأبنية اللغوية في النص الأصلي ابتغاء توصيل المعنى المراد، فقد اقتضى تحويل المبتدأ المطول في مستهل الفقرة إلى جملة مستقلة بالعربية، وتحويل المبنى للمجهول إلى مبن للمعلوم، وابتداء كل جزء من الجملة الإنجليزية الطويلة بفعلٍ عامل، فالجملة الإنجليزية الأولى لا تتضمن أفعالاً عاملة، بل فعلًا ناقصًا أوحد هو (can) واسم مفعول واحد (simplified) واسم فاعل (passing). والتقسيم في الترجمة أدى إلى جمل متوازية (وهذا يسمى parataxis) الأقرب إلى الذائقة العربية: انظر التوازي بين ”تتسم“ و”نستطيع“، و”تبدأ“ و”تستمر“ ثم ”تبدأ“ و”تستمر“ أيضًا!
يشترك هذان النصان إذن فيما ذكرته من خصائص عامة للأسلوب العلمي، وقد أُطْلِقَ على هذا النوع من النصوص تعبير ’النص الإخباري‘ (informative text) أي ما يماثل تقريبًا الأسلوب الخبري عندنا بالعربية، أي المقولات التي تحتمل الصدق والكذب. وفى مقابله نجد ما يسمى بالأسلوب التعبيري (expressive text)، والذي حددت ملامحه في حديثي عن خصائص اللغة في الأدب والشعر. ولنأخذ نموذجًا من شعر شاعر أحبه العرب وتأثروا به في الثلاثينيات من القرن العشرين وهو شلى:
The breath whose might I have invoked in song
Descends on me; my spirit’s bark is driven
Far from the shore, far from the trembling throng
Whose sails were never to the tempest given:
The massy earth and spherèd skies are riven!
I am born darkly, fearfully, afar;
Whilst, burning through the inmost veil of Heaven,
The soul of Adonais, like a star,
Beacons from the abode where the eternals are.
P.B. Shelley, Adonais, last stanza
ما خصائص هذا النص؟ أول ما نلاحظه هو أنه منظوم مقفى، أي إن الكلام فيه غير منثور، أي إن الشاعر لم ينثر الألفاظ على السطور بل نظمها مثل ينظم الناظم حبات اللؤلؤ في العقد، فمقاطع السطر الأول مثلاً تتبع نظامًا معينًا إذ يتكون السطر من عشرة مقاطع، تنقسم إلى وحدات تتكون كل وحدة منها من مقطعين الأول غير منبور والثاني منبور، أي خفيف يتبعه ثقيل، وهكذا دواليك. والقوافي تتبع نظامًا تبادليًّا أي إن القافية الأولى (الكلمة التي ينتهي بها السطر) تحاكيها القافية في السطر الثالث، والقافية الثانية تحاكيها القافية في الرابع والخامس، وبعد ذلك تتفق قافية السادس مع الثامن، والسابع مع التاسع. هذا من حيث شكل اللغة، ثم نجئ إلى مادة الفقرة: إنها صورة سفينة تغرق وترسل روح الغريق إلى السماء حيث أرواح الخالدين من الشعراء، كل ذلك من وجهة نظر ذاتية خاصة بالشاعر، فالسفينة سفينة روحه، وإذا بالغرق يتخذ صورة غريبة، صورة تصدع في الأرض (والأرض ذاع الصدع) وتنشق السماوات التي تتخذ صورة قباب مرفوعة، تتوهج فيها روح الشاعر كيتس (Keats) الذي يرثيه الشاعر، مثل نجم داخل سماوات الشاعر، مرسلة أنوارًا كالنجم الهادي، من دار الخلد، أي جنان الخلد التي هي مثوى الشاعر الذي يسميه المؤلف أدونيس، تشبيها له برب أسطوري قديم.
المترجم يواجه هنا إذن بناء متكاملًا من الصور المجازية والرموز، في لغة تدعو القارئ إلى تأملها وتذوقها، أي إنه يواجه عملًا فنيًّا متكاملًا من المعاني والألفاظ المنظومة، والتي لا يمكن أن يُعادلها نقل المعنى أو توصيله وحسب، فالمترجم مطالب بنقل المعنى والمبنى، وهذا ما نجده في الترجمة التالية التي لم تنشر بعد:
كُنْتُ اسْتَلْهَمْتُ رِيَاحًا في أُنْشُودَةِ فَرَحِي
فَإِذَا هِيَ تَهْبِطُ فَوْقِى وتَسُوقُ سَفِينَةَ رُوحِي
وإذَا بي أَبْتَعِدُ عَنِ السَّاحِلِ في هذَا البَحْر
عَنْ هذَا الحَشْدِ المُرْتَعِدِ علَى البَرّ
مَنْ لَمْ تَعْرِفْ أَشْرِعَتُهمُو يَوْمًا عَاصِفَةَ القَهْر
وإذَا بالأَرْضِ الصُّلْبَةِ تَنْصَدِعُ وتَنْشَقُّ قِبَابُ الخَضْرَاءْ!
وإِذَا بي أُحْمَلُ في الظُّلْمَةِ في فَرَقٍ لمكَانٍ نَاءِ
بَينَا تَتَوهَّجُ رُوحُ أَدُونِيسَ كنَجْمٍ لَأْلَاءِ
دَاخِلَ سُجُفٍ بَاطِنَةٍ في أَعْمَاقِ سَمَائِي
مُرْسِلَةً أَنْوَارًا هَادِيَةً مِنْ دَارِ الخُلْدِ العَلْيًاءِ
ماذا فعل المترجم؟ لقد حافظ على الوزن والقافية، ولكنه غير نظام القوافي بأن جعلها يتبع بعضها بعضًا في السطور المتوالية، فهذا هو معنى القافية، من فعل ’يقفو‘ أي يتبع بالعربية، فبدلًا من القوافي التبادلية (alternate) جعلها تتوالى في سطرين، ثم في ثلاثة، ثم في باقي القصيدة! كما إنه لم يلتزم بعدد السطور فقد جعلها عشرة أسطر بدلًا من تسعة، ولجأ إلى التفسير حين أضاف كلمة في السطر الأول، وهي كلمة القافية، وحافظ على انقسام الصورة بعد السطر الخامس الذي أصبح السادس بالعربية، محافظًا على السطور الأربعة الختامية التي ترسم الصورة الخيالية التي رسمها الشاعر شلى، ومن المصادفات أن عدد الكلمات سبعون في كل نص.
هذا المنهج يختلف اختلافًا جذريًّا عن منهج نقل المعنى وحسب، بدقة وأمانة ووضوح، في الترجمة العلمية، فالمترجم الذي يترجم الأدب ينقل عملًا إبداعيًّا مستقلًّا له خصائصه التي تضم الاستعمال الأصيل للسمات الفنية للغة المستهدفة أو اللغة الهدف (target language) حتى يقنع القارئ بأن ما يقرؤه شعر، محافظًا بطبيعة الحال على الصور وعلى المعاني، ومستغلًّا كل الرخص الشعرية التي تسمح بها اللغة الهدف أي اللغة المترجم إليها، أما إذا اقتصر على نقل المعاني وحسب فسوف يصبح أقرب إلى الترجمان منه إلى المترجم.
وعلى المترجم أن يقوم بمهمة الناقد الذي يحلل طبيعة النص، والمفسر الذي يهتدى بما فيه من ظواهر لغوية لتحديد هذه الطبيعة، مستعينًا بما يسمى ’الدائرة الهرمانيوطيقية‘ التي وضعها شلايرماخر وأحياها جادامر في العصر الحديث، وتعنى هذه الدائرة أن ينظر القارئ إلى النص نظرة عامة مسترشدًا بأي جزء فيه، ثم ينطلق من هذا التصور العام في قراءته قبل ترجمته، فإذا وجد في أجزائه الأخرى ما يغير من هذا التصور العام عاد إليه فعدَّله قبل أن يعود ثانيًا إلى الأجزاء ليرصد ما فيها من مغايرة أو اتساق، وهكذا دواليك، من الجزء إلى الكل ثم إلى الأجزاء ثم إلى الكل، وهو مذهب يطلق عليه في التفسير والترجمة ’الميريولو ﭼـيا‘ (mereology). فالمترجم الذي يتصدى لأي نص كتبه هايديجر – الذي نعتبر كتابته علمية تقتضي الإلمام بالمصطلحات الفلسفية العامة والمصطلحات الخاصة به – يبدأ في العادة بتصور معين، ولكن هايديجر مثل غيره من الكتاب قد يتحول من أحد أنواع النصوص إلى غيرها، وهنا لابد للمترجم أن يعي ذلك ويُعَدِّلَ منهجه في الترجمة تبعًا لتغير طبيعة نص هايديجر.
فلننظر في نصين من كتاب واحد، ويمثلان نصًّا إخباريًّا يقتضي الدقة والحفاظ على ما فيه من المصطلحات الفلسفية، قبل أن ننتقل إلى نص مقتطف من تحليل نقدي للوحة للرسام ﭬـان جوخ، كثر الاستشهاد به باعتباره تطبيقًا لما يقوله في النص العلمي الأول، وإن كنا نعتبره نقدًا انطباعيًّا، بل وربما رأى المترجم فيه لمسة تعبيرية تجعله ينتمي انتماءً أوضح إلى النصوص التعبيرية أي الأدبية. هذان هما النصان أولاً من كتاب بعنوان بعيدًا عن الدرب المألوف:
(ص 16)
(ص 50-51)
(أ) هل نعنى أن اللوحة المرسومة تأخذ الشبه من الواقع وتحوله إلى إنتاج فنى؟ بالقطع لا. فالعمل إذن لا يتعلق بإعادة إنتاج كائن معين… بل إن همه إعادة إنتاج الجوهر العام للأشياء.
(ب) الحقيقة التي تكلمنا عنها لا تتفق مع ما يدركه الناس عمومًا بهذا الاسم، أى ذلك المعنى المخصص للمعرفة والعلم، باعتباره صفة تختلف عن الجمال وعن الخير، وهي الألفاظ التي تستخدم باعتبارها قيمًا للأنشطة غير النظرية. الحقيقة هي الكشف عن الموجودات بصفتها موجودات. الحقيقة هي حقيقة الموجودات.
وهذا هو النص الآخر: من كتاب أصل العمل الفني:
A pair of the peasant shoes and nothing more. And yet. From the dark opening of the worn insides of the shoes the toilsome tread of the worker stares forth. In the stiffly rugged heaviness of the shoes there is the accumulated tenacity of her slow trudge through the far-spreading and ever-uniform furrows of the field swept by a raw wind. On the leather lie the dampness and richness of the soil. Under the soles slides the loneliness of the field-path as evening falls. In the shoes vibrates the silent call of the earth, its quiet gift of the ripening grain and its unexplained self-refusal in the fallow desolation of the wintry field. This equipment is pervaded by uncomplaining anxiety as to the certainty of bread, the wordless joy of having once more withstood want, the trembling before the impending childbed and shivering at the surrounding menace of death. (12)
حذاء فلاحة ولا مزيد عليه. ومع ذلك، فإن الخطوات المكدودة للعاملة تطل علينا من فتحة الحذاء التي تكشف عن باطنه البالي. وفى ثقل الحذاء وغلظته المتصلبة نشعر بالدأب المتراكم للسعي المرهق البطيء عبر الأخاديد النمطية المنتشرة في طول الحقل وعرضه، الذي تهب عليه الريح الصرصر العاتية، وعلى الجلد نرى رطوبة التربة وثراءها. وتحت النعل تنزلق وحشة المدق الحقلي عند هبوط المساء. وفى الحذاء ذبذبة النداء الصامت للتربة، ومنحتها الصامتة للحبوب التي نضجت، وإنكار الذات غير المشروح في وحشة الأرض البور في الحقل في فصل الشتاء. ويغشى هذا الحذاء قلق لا يجأر بالشكوى حول توافر الخبز، والفرحة التي لا كلمات لها بالنجاح مرة أخرى في مقاومة الفاقة، والرعدة أما فراش الرضيع الوشيك الوصول، والرجفة أمام التهديد المحيط بها بالموت.
فانظر كيف يتغير أسلوب هايديجر، وكيف يتغير أسلوب المترجم معه، ولعلنا إذن نعيد النظر فيما نسميه الأسلوب العلمي ونميز بينه وبين الأسلوب الأدبي، والأهم من ذلك، كما أوضحت أن ما يسمى الترجمة العلمية أو ترجمة العلوم الطبيعية أيسر كثيرًا من ترجمة الأدب والعلوم الإنسانية، ولأَدْعُ القارئ إلى تأمل النماذج المحدودة التي أوردتها عاليه مرة أخرى.
الهوامش
أَلَا أَيُّهَا النُّــــوَّامُ وَيْحَكُمـو هُــبُّوا أُسَائِلكُمْ هَلْ يَقْتُلُ الرَّجُلَ الحُبُّ؟